Welcome

تنوع مناهج المعرفة كأساس إبستمولوجي لأسلمة العلوم الإنسانية

تنوع مناهج المعرفة كأساس إبستمولوجي لأسلمة العلوم الإنسانية

محمد فنائي أشكوري

من الأسس المعرفية لأسلمة العلوم الإنسانية هو أننا نملك ثلاثة مناهج رئيسة لتحصيل المعرفة واكتشاف الحقيقة:

المنهج العقلي (الفلسفة، الرياضيات، المنطق)

المنهج الحسي-التجريبي (العلوم التجريبية)

المنهج النقلي-الوحياني (المعارف الدينية)

بعض الموضوعات والمسائل لا يمكن دراستها إلا من خلال منهج واحد فقط:

مثل المنطق والرياضيات وبعض مسائل الفلسفة التي يقتصر تناولها على المنهج العقلي، ولا سبيل للتجربة إليها، ولم تتناولها النصوص الدينية؛

أو مثل العديد من التعاليم الدينية في مجال العقائد والأحكام التي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الوحي؛

أو كغالبية مسائل العلوم التجريبية التي لا قول للعقل المحض فيها، ولم تتطرق إليها النصوص الدينية كذلك.

وهناك فئة من الموضوعات والمسائل يمكن دراستها من خلال منهجين اثنين، كأن تكون عقلية ودينية، مثل بعض مسائل الفلسفة كالبحث في صفات الله وبعض أحوال النفس والمعاد، والتي يمكن توليد المعرفة فيها بالعقل أو بالرجوع إلى النصوص الدينية.

وأخيرًا، توجد مجموعة من الموضوعات والمسائل يمكن دراستها من خلال المناهج الثلاثة: العقلي، والتجريبي، والديني؛ مثل: الأنثروبولوجيا، التربية، الاقتصاد، وكثير من موضوعات العلوم الإنسانية، حيث يُظهر كل منهج وجهًا وجانبًا من المسألة أو الموضوع. على سبيل المثال، يمكن أن يكون لدينا أنثروبولوجيا فلسفية، وتجريبية، ودينية (كلامية، عرفانية).

يمكن للدين أن يُدلي برأيه في مسائل عقلية وتجريبية، وأن يطرح موضوعات تتجاوز نطاق العقل المحض أو التجربة الصرفة. إلا أن الدين لا يتدخل في جميع مجالات العقل والتجربة، لأن هدفه ليس اكتشاف جميع الحقائق العلمية، فالدين ليس بديلًا عن العلم البشري. إنما يُؤكد الدين على تلك الحقائق التي لها دور حاسم في سعادة الإنسان النهائية، مثل الإيمان بالمبدأ والمعاد. ومع ذلك، قد يدخل الدين في بعض المجالات العقلية أو التجريبية من أجل تحقيق غاياته. كما يطرح الدين في كثير من الأحيان أحكامًا فوق عقلية وفوق تجريبية، ويتجلى ذلك في بعض الأحكام الفقهية. فمثلًا، يحرّم الدين شرب الخمر أو العلاقات الجنسية خارج الإطار الشرعي، في حين أن العقل أو التجربة وحدهما قد لا يصلا إلى مثل هذا الحكم. ولهذا، في الفكر الديني، وعلى خلاف الفكر العلماني، تُعد الشريعة الإلهية في مثل هذه الأمور مرجعًا ملزمًا لا تحتاج إلى إثبات عقلي مستقل أو تأييد تجريبي.

هذا الاختلاف الجذري في الأسس المعرفية يُنتج نموذجين متميزين من التفكير ونمط الحياة: الديني والعلماني، مما يؤدي أحيانًا إلى تناقضات تُصعب التوافق التام بينهما. فالفكر الديني والفكر العلماني يقدمان رؤيتين مختلفتين للكون والحياة، تؤدي في بعض المجالات إلى أنماط حياة متباينة تمامًا، ويُشار أحيانًا إلى ذلك على أنه صراع بين التقليد والحداثة.

وليس التجديد الديني استسلامًا للعلمانية أو تنازلًا عن التعاليم الدينية. فالتجديد الديني لا يعني مطابقة الدين للقيم العلمانية، أو الانسياق خلف موضات العصر المتقلبة، أو تبرير الإباحية. إن رسالة الدين هي تغيير العالم، وارتقاء فكر الإنسان وسلوكه وفق المعايير الإلهية، وليس التبعية للأفكار السائدة أو ذوبان الهوية الدينية.

فإذا سعى الفكر الديني التنويري إلى إزالة الفروق الجوهرية بين الدين والعلمانية أو امتصاص الدين في العلمانية، فذلك مشروع يفرغ الدين من أصالته وهويته، ويتناقض مع التعاليم الدينية، ومصيره الفشل.

وخلاصة القول في هذا القسم أنه ينبغي الاستفادة من جميع المناهج المعرفية المعتبرة، واستخدام كل منهج في موضعه المناسب. فمثلًا، في علم النفس، من المرغوب أن نمتلك، بناءً على المناهج الثلاثة المذكورة، ثلاثة أنواع من علم النفس: الفلسفي، والتجريبي، والديني. وكل من هذه الأنواع، خاصة الفلسفي والديني، يتميز بتعدد وجهات النظر داخله.

فالعالم النفسي المسلم، إلى جانب علم النفس الفلسفي والتجريبي، لديه أيضًا علم النفس الديني وربما العرفاني، لكنه لا يفرض علم النفس الديني على من هم خارج الدين، ولا العرفاني على من هم خارج نطاق التصوف. وهذه المقاربات المتنوعة في علم النفس لا يتم خلطها ببعضها، وإنما توضع كلٌ في مكانها. ومن خلال الاستفادة من جميع المناهج والمصادر المعرفية، سيكون علم النفس لدينا أكثر شمولًا وثراءً.

Leave a Reply